فاتح عبدالسلام
انتهى عصر الأدباء الذين يشتهرون بسبب تفوقهم الإبداعي فحسب من دون علاقة مع موقف سياسي سلطوي أو معارض للسلطة من جهة أو من دون أزمات طارئة ومفاجئة تتصل بالموقف من الأديان والرسالات السماوية والمعتقدات الروحية.
الأدب الذي لا يوزن بموازين الصراعات السياسية والتعبئات الحزبية ودفء الحكومات، هو أدب نادر هذه الأيّام وأصحابه أكثر ندرة، أمام تلك الموجات العالية والعاتية التي لم يعد هناك أحد بمنأى عنها، الا مَنْ اختار إطلاق عطر الوردة في وجه أعمدة الدخان.
والأدباء تتقاذفهم الأهواء كسائر البشر، منهم مَنْ يذهب صوب اليمين ومنهم مَنْ يتناول جهة اليسار، وقلما تجد بينهم مَنْ يثق فيهم بنفسه وثوقاً فيراهن عليها ولا يلتفت حواليه ولا يتردد فيغادر إلى الإبداع صانعاً بيته الدافئ على ضفافها أو في عمقها أو على روابيها.
هل توجد آلية أكبر من كونها نقدية تقليدية، يمكن أن يخترعها العرب في القرن الواحد والعشرين لكشف مدعي الأدب والفن وفضحهم والمطالبة بتنقية حقول الإبداع من ادغالهم وعشبهم الضار.
لا أحد يمتلك تلك الآلية الآن، بل لا أحد يستطيع في ما يبدو من المشهد الحالي أن يوقف عوامل زيادة الدغل في بساتين النضارة والأريج أو حجب النعيق عن الهديل والتغريد. وكأن تلك العوامل مغذاة من جهات قوية تريد لها الثبات والمنعة وإيقاع الهزائم بخصومها من الذين في قلوبهم بقية اعتقاد خادع بإنّ الإبداع المتمخض عن مكابدة السنين والمعرفة هو الذي سينتصر في النهاية.
أية نهاية؟ إذا كان الأديب الحقيقي يغيب في بلد، لأنّه لم يمتدح الحاكم وحكومته واذيالها، وإذا كان يهاجر قسراً إلى المنافي بحثاً عن أوطان لا تعوضه وطنه أبداً، لكنّها أوطان بلا سجون وتقارير مخبرين وأهواء نزقة تعصف بالقوانين الوضعية والسماوية معاً، تحت شعار الاخلاص للوطنية.
الأديب العربي مبتلى بالحاكم والحكومة..
أمّا الحاكم فبلواه فيه انّه يمثل سقف الحرِّية.
وأمّا الحكومة فهي السقف الوهمي لحرِّيات عدة يرفع ويوضع على حسب قرار الحاكم.. ومن دون علم الأديب الذي تتحد في عينيه البلوتان معاً.
وأمّا المحكوم، فهو الشاهد الحي الذي يعرض نفسه كل ليلة على ضمائر المبدعين بحثاً عن لحظة تنفس في نص يكتب للمستقبل لا للحاضر.. لأنّ الشهداء يغادرون سعيدين دائماً، وفي عيونهم وميض الآتي من زمن آخر.. لابدّ أن يكون للمبدع فيه صوت أو نفس.
المعاناة والتمزق والأضغان والهجرات والمكائد ما بين الموالاة الرفض هي حوافز لإستمرار الإبداع في التعبير عن مسيرة الحياة. فالمبدع لابدّ له من شحنات تحفزه وتثير في أعماقه ما قد يسكت حيناً أو يتلبد حيناً آخر.
ولكن هامش الهم الإنساني العام يقف بالمرصاد في ظلّ الظروف المعيشية الصعبة للأدباء الذين لم تعلم الحياة أغلبيتهم سوى الكتابة والتأمّل في الكلمات. في حين يعزز ذلك المرصاد المتصيدون في المياه العكرة لحاجة المبدعين إلى لقمة العيش ومستلزمات عوائلهم ليزجوا بهم في لعب السياسة الآنية، الرخيصة، والمبنية على التنابز بالألقاب وكشف العورات ونشر الغسيل القذر على حبال عالية.
لا شك أنّها محنة الأديب الباحث عن الخلاص، فلا يجد أمامّه سوى المتاهة، تأخذه حيث اقداره المجهولة، وحيث يكون منفذاً لأوامره تسيّره كالريبوت.
المحنة قدر المبدع لكي يستمر، مثلما هي قدر الشعوب الحيِّة التي تتعرّض للإنكسار والتصدع والنزيف.. ولكنّها تظل شعوباً حيِّة ولودةً لا تعرف النضوب. فالمبدع محارب معرض لخسارة حروبه دائماً. والشعوب التي تخوض حروباً وتخسرها لا يلغى وجودها مهما كانت الخسارة جسيمة، لكنّها تخرج معترفة بالنتيجة الجديدة وتسلك طريقاً تقرأ فيه العلامات الدالة على التحوّل الذي حصل كنتيجة للحرب.
تعدّدت أسباب المحن للمبدعين العرب.. ولكل محنته، غير أن أقسى المحن هي سكونية المبدع واستسلامه أو عدم مبالاته بما يجري على اعتبار أنّ ذيله سلم من الإحتراق والدوس مرةً أو مرّات.. وذهاب ظنّه بأنّه سوف يسلم في كل مرّة.
المصدر: كتاب الفكر مهنة